ELIAS PAULUS

ELIAS  PAULUS
ELIAS PAULUS THE BIG LOVE الحب الكبير -اضغط على الصورة-

الجمعة، 28 أكتوبر 2011

السيد اردوغان هل يقرأ

بقلم المطران جورج خضر، جريدة النهار السبت 09/24/2011
في الخطاب الذي ألقاه رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان على وزراء الخارجية العرب في القاهرة أقف عند جملتين منه أولاهما ان “تركيا والعرب يشتركون في العقيدة والثقافة والقيم”. العقيدة، بلا منازع، هي الاسلام. هنا كلام يتضمن ان دولته لا يرى وجود اثني عشر مليون مسيحي عربي على الأقل وهؤلاء لا ينتظرون من اجنبي تحديد هويتهم القومية. في ما يختص بالثقافة اللغة التي كان لها أثر كبير في الأناضول هي اللغة الفارسية. بعد محمد الفاتح صارت القسطنطينية قطب جذب للشعراء العرب والفرس حتى تأصل التركي البسيط. ولكن بعامة لم يبقَ من تأثير عربي غير مختلط بالأثر الفارسي حول القرنين الخامس عشر والسادس عشر.
بظهور التنظيمات في القرن التاسع عشر اتجهت تركيا أدبيا نحو الغرب. ثم مع حرب الاستقلال وإعلان الجمهورية التركية السنة الـ 1923 تصلّب الشعور التركي حتى جاء ناظم حكمت الثوري (1902-1963) ثم اتسع الأفق بدءًا بالسنة 1939 بالترجمات والاتجاه نحو الفكر المجتمعي والسياسي. ما هو حي الآن في الأدب لا علاقة له بالعروبة. أما القيم التي يشير إليها السيد اردوغان على انها مشتركة بيننا وبينهم فمنها القديم والحديث، فما من شك ان القديم غير ضاغط علينا واننا تواقون الى الحداثة وذائقون اوروبا بعمق في حين ان الأتراك متعلقون بالعتيق بشدة وأوروبا عندهم أمل في الانصهار السياسي بها استكمالا لحلف شمال الأطلسي الذي يجمعهما ويجعل تركيا قوية في دنيا العرب على رجاء عثمانية ما العرب فيها حليف صغير لا شريك كبير.
أما الأكثر مخافة مما سبق فقول السيد اردوغان: “كان في التاريخ التركي شاب تولى إنهاء حضارة سوداء وتدشين حضارة جديدة عريقة عندما فتح اسطنبول وهو محمد الفاتح”. أنا لا أناقش عراقة الحضارة التركية وعظمتها. ولكن ابدأ بسؤال للسيد اردوغان لا ينبغي أن يصدمه وهو هل قرأ الحضارة البيزنطية التي يسميها سوداء. الأتراك عسكر أقوياء استطاعوا مع مؤامرة الأساطيل الغربية التي كانت تربض هناك أن يغلبوا أعظم فكر حضاري السنة الـ1453. ولكن كيف يريد السيد اردوغان ان يقنعنا ان الحضارة المتكاملة العناصر والخلاقة والسامية روحيا حتى السماء كانت سوداء. كيف لا يرى أن نهضة أوروبا ما أخذت تظهر إلا بهجرة العقول البيزنطية إلى الغرب الذي اقتبس منهم العقل الإغريقي وانشأ الفكر الحديث؟
الحضارة البيزنطية اهم ما فيها الثقافة. عرفت الخط مكتوبا باليونانية واللاتينية في اعمال المؤرخين القدامى ورسائل في الزراعة والفن العسكري، في الطب والطب البيطري، في تأويل الأحلام، كل هذا الف مكتبة كبيرة. اليها كانت مكتبة البطريركية المسكونية التي كانت تحوي أعمال المجامع وكتب الآباء. الى هذا مكتبات خاصة. هنا وهناك كتب طقوسية. ندرة الكتب نابعة من كونها غالية.الوصول الى الكتاب يسهل في العائلات الغنية. المدرسة الابتدائية يشرف عليها الأسقف، يتعلّم الولد فيها القراءة والكتابة والحساب. الكتاب الرئيس هو المزامير. في المدرسة علم الجمل حيث لكل حرف قيمته في الرقم كما في العالم العربي. الترتيل متقن في المدارس.
كل الأولاد كانوا يتبعون المدارس الوسطى. تعلم الناس كل ما في الحضارة القديمة: هوميروس، الهندسة، البلاغة، الرياضيات. كانت الفلسفة تتضمن اللاهوت والرياضيات، الموسيقى، علم الفلك، الطبيعيات. في القرن الثالث عشر ظهر في الترجمة اعمال لاتينية وفارسية وعربية. أخذ القوم عن اللاتينية مفردات الحياة الإدارية وعن العربية تلك المتعلقة بالنسيج. كانت الكنيسة متعلقة باللغة القديمة. عرفت القسطنطينية غير مؤسسة جامعية، ثم كان للبطريركية تعليم جامعي.
المعرفة العالية كان لا بد ان تتضمن تفسير الكتاب المقدس، وبعد تحديد العقيدة ظهرت المفردات اللاهوتية. لقد اثر النسك والتصوف في التعليم وتركزت العقيدة على كتب يوحنا الدمشقي. الصوفيون الكبار كانوا سمعان اللاهوتي الحديث وغريغوريوس بالاماس ونيقولاوس كبازيلاس. هنا تظهر سير القديسين. الكتب الطقوسية وضعت بين القرن الرابع والقرن الخامس عشر وعليها يعيش الارثوذكسيون حتى اليوم. جزء اساسي من الثقافة البيزنطية ان تعرف استعمال كتب العبادات ولا سيما حسب الأعياد والمواسم.
ثم تأتي الأعمال الأدبية الموضوعة بلغة العلماء. وتعالج التاريخ والجغرافية والفن العسكري والبلاغة والقصة، والفلسفة والألسنية وقواعد اللغة.
التاريخ يبدأ من بدء الخليقة وينتهي عند زمن الكاتب. الى هذا الفلسفة اليونانية التي أظهرت اباء الكنيسة. وقد استعار الفكر المسيحي مصطلحات الفلسفة لينتقل ورأى انه يكمل الفكر القديم بالوحي. غير انها بقيت مستقرة في جوهرها. استعملت أساليب مختلفة في بناء اللاهوت غير ان عدد الفلاسفة الأصيلين كان قليلا ولكن كثر العالمون بالآداب اليونانية الكلاسيكية والنقاد وعلماء اللغة وبرز شعراء مسرحيات.
لعل اجمل ما كتب الشعر الديني. كل ما يسمى في الصلوات القنداق والقانون شعر. الى هذا عرفت بيزنطية الشعر الشعبي والقصة بالفصحى وبالعامية. كذلك عرف علماء رياضيات وفيزياء وبصريات.
عرف البيزنطيون علم الحيوان من الناحية التطبيقية وعلم النبات التطبيقي اي استعمال النبات في الطب والصيدلة. اخذوا الخيمياء عن سترابون وطبقوها في المعادن والصبغة والأدوية والزجاج.
على الصعيد الطبي في التنظيم الصحي. أسست مستشفيات وصار للأطباء تعليم نظامي وعززت مواردهم. اشتهروا في علم العين: بولس من ايجينا كان دارس الجراحة والتوليد وأثر في الطب العربي. ميخائيل بسيلوس وضع قاموسا في الأمراض. خصصوا كتبا في طب الأسنان والتمعوا في البيطرة وفي طعام الحيوان. الصيدلة كانت عندهم جزءا من تعليم الطب وأخذوا في الصيدلة شيئا من العرب والفرس.
عظمت الخطابة وسيلة للدعوة السياسية او الدينية. ومن الخطابة الوعظ الذي اشتهر فيه يوحنا الذهبي الفم في القرن الرابع ومطلع الخامس في أنطاكية والقسطنطينية ولدينا مواعظه في اللغة اليونانية مترجمة الى معظم اللغات الأوروبية وبعضها الى العربية.
ظهرت الأيقونة الخشبية او الجدارية في الامبراطورية ولا سيما لتعليم الأميين. منذ القرن الرابع بدأ الرسم كما الفسيفساء. اقدم الفسيفساء (العذراء، القديس جاورجيوس) في سالونيك. القليل حفظ في ايا صوفيا وبقيت ايقونات كشف عنها من عهد أتاتورك. القليل في قبرص والأكثر في رافينا (ايطاليا). وبسبب غلاء الفسيفساء استعيض عنها بالرسم الجداري الذي عرف كثيرا في ما هو الآن المشرق العربي وهو في حال التجدد اليوم في كل انحاء سوريا ولبنان. كذلك زينت المخطوطات بالتصاوير ولا سيما كتب الأناجيل. وارتبطت الصور بصناعة الصياغة والتطريز.
انتبهت الكنيسة الى ضرورة الأيقونة في المجمع المسكوني السابع وحددت تكريمها تحديدا عقديا في السنة الـ787 ملأت الكنائس والبيوت في الدنيا الارثوذكسية وكان بادئ التنظير لها القديس يوحنا الدمشقي الذي عاش راهبا في فلسطين وتبنت الكنيسة رأيه في الأيقونة وهو القائل ان التجسد الإلهي يفرضها. ان روحانية الايقونة في كل بيت ارثوذكسي في العالم الى جانب استلهامها في الكنائس كان من العوامل التي حفظت الايمان.
كل البيزنطيين، كما يؤكد المؤرخون، كانوا مؤمنين. اذا وجدوا راهبا في الطريق يطلبون بركته. في هذا الجو لك ان تفهم اهتمامهم بالمرضى والفقراء.
لقد ظلم بعض الأباطرة لكن بعضهم تركوا الملك ودخلوا الديورة رهبانا. كان هذا المجتمع على خطاياه يريد ان يدشن في الأرض ملكوت الله في استقامة الرأي وطهارة السيرة. علامتها البكاء على الخطايا واللطف والتسامح والسلام والتعاطف والزهد بالمال والتقشف. هذه كلها مجتمعة بكلمة واحدة هي محبة الرب.
الأمر كله ان يهتدي الانسان من الامور الخارجية الى الامور الداخلية. بكلام آخر كل المؤمنين في وسط هذه الحضارة كان نهجهم صوفيا، بحيث تقيم في سر الله ولا تعلم حواسك شيئا مما تأخذ من إلهك وتصلي دعاء الرب يسوع في داخل قلبك مرددا اسمه مئات المرات في اليوم او ألوفا حتى تنطفئ الكلمات ويصبح قلبك كلمة.
من عرف العبادات البيزنطية التي تكونت اصلا من بلادنا يرى فيها غنى لا يتجاوزه غنى آخر. كل صلاة من الصباح الى الغروب الى نصف الليل تحمل هذه القناعة التي نعبر عنها يوم الفصح بقولنا: “المسيح قام من بين الأموات” انت في القداس ترجو الله بعد ان يأتيك جسد الرب ودمه ان يجعلك في “كمال ملكوت السماوات”، متحررا من المحاكمة في اليوم الأخير ومن الدينونة. كل هذه الصلوات الكثيفة، العميقة، البلورية وجسدك ساجد او منتصب ونفسك بلورية نابعة من الكتاب الإلهي او هي نظم له لتصبح شعرا إلهيا مع الجماعة.
اذا قرأ السيد اردوغان كل هذا هل يقدر ان يقول ان كل هذا البهاء الذي وصفناه ما قدر لنا هو حضارة سوداء؟ انت لست معذورا ان قرأتنا وفهمتنا خطأ. انت لست معذورًا ان رأيت النور ظلاما. أجدادك اقتحموا المدينة التي كانت تعرف انها وحدها آنذاك مقر الحضارة في العالم. انصف ما كان قبلك جميلا واقرأ لأنك مسؤول.
بقلم المطران جورج خضر، جريدة النهار السبت 09/24/2011

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق