الكتاب المقدس: محتواه، مخطوطاته، وترجماته
العهد الجديد ومحتوياته:
مضت حوالي 400 سنة بعد تتميم أسفار العهد القديم الذي ختم بسفر ملاخي، حيث سكت الوحي كل هذه المدة، ولم تكتب فيها أي رسالة مقدسة، أو نبوة، أو سفر مقدس. ومن أهم الحوادث التي حدثت بعد ختام العهد القديم هي ولادة المخلص يسوع المسيح والذي هو إتمام للعهد الذي وعد به الله أنبياءه في القديم، والعهد الجديد هو إتمام للعهد القديم.
حيث فيه تم العهد بدم المسيح “لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا”(متى 26: 28).
إن العهد الجديد هو سجل لصفة وإقامة تدبير جديد بين الله والإنسان بالمسيح. فالله يضع البنود وبإمكان الإنسان أن يقبلها أو أن يرفضها، إلا أنه لا يستطيع أن يغيرها. وعند قبوله لها يصبح هو والله ملزمين بإتمام ما يتطلبه العهد منهما. العهد القديم تضمن إعلان قدسية الله في مستوى ناموسي صالح، وأولئك الذين قبلوه أمروا بحفظه بوقار. أما العهد الجديد فيشمل إعلان قدسية الله في ابن كامل البر. وأولئك الذين يقبلون ذلك الإعلان يزودهم بالسلطان ليصيروا أولاًد الله (يوحنا 1: 12) بجعلهم أبراراً.
وتتضمن محتويات العهد الجديد الأناجيل الأربعة التي تحدِّثُنا عن حياة الفادي يسوع منذ ولادته من مريم العذراء الطاهرة إلى حداثته ثم صلبه وقيامته من بين الأموات. وقد أثبت أغلبية العلماء أن سيرة السيد المسيح له المجد كما جاءت في الأناجيل هي حقيقة تاريخية واقعية لا ريب فيها، وأن لحياته وأقواله وموته على الصليب وقيامته من القبر شهود عيان كثيرين. ومن خلال شهادتهم نعلم أن المسيح لم يكتب كتاباً واحدا بالرغم من أنه كان قادراً على الكتابة. والإنجيل كلمة يونانية معناه بشرى أو خبر سار مفرح وقد كانت تطلق هذه اللفظة عندما يأتي مولود للقيصر أو حين ينتصر جيشه على الأعداء . فكلمة إنجيل تعني الخبر السار بالانتصار والغلبة على الشر والفساد وبخبر المولود الجديد يسوع تنجو البشرية جمعاء إذا آمنوا بفداءه.
إن الأسفار الخمسة الأولى من العهد الجديد: متى، مرقس، لوقا، يوحنا، أعمال الرسل، ذات ميزات تاريخية. فجميعها تسرد قصة حياة المسيح وأعماله من وجهات نظر مختلفة ما عدا سفر أعمال الرسل فهو سفر مرافق لسفر لوقا ويكمل قصة أتباع المسيح بعد انتهاء حياته على الأرض وبصورة خاصة يشدد على حياة بولس الرسول.
أما الكتب التالية فهي ذات صبغة عقائدية: رومية، كورنثوس الأولى والثانية، غلاطية، أفسس، فيلبي، كولوسي، تسالونيكي الأولى والثانية، العبرانيين، يعقوب، بطرس الأولى والثانية، يهوذا، يوحنا الأولى، ومعظم هذه الأسفار كتبت على شكل رسائل وجهت إلى كنائس بغاية تثقيفهم في المعتقدات المسيحية وممارسة أخلاقها. ورسالة رومية هي الوحيدة التي كتبت على شكل جدل منهجي رسمي. والأسفار الخاصة هي: تيموثاوس الأولى والثانية، تيطس، فيلمون، يوحنا الثانية والثالثة. كتبت هذه على شكل تحارير خاصة إلى أفراد لا إلى جماعات. أما سفر رؤيا يوحنا، وهو آخر سفر في العهد الجديد، فله طابع النبوة وهو يعالج المستقبل كما أنه يعالج الحاضر.
إن جميع كُتّاب العهد الجديد، باستثناء لوقا، من اليهود وثلاثة منهم متى وبطرس ويوحنا، من تلاميذ المسيح. مرقس ويهوذا ويعقوب كانوا على نشاط ملحوظ بالكنيسة الأولى أو كان لهم اتصال بالجماعة الرسولية قبل موت المسيح. ومع أن لوقا وبولس لم يشاهدا حياة المسيح عياناً إلا أنهما كانا معروفين جيداً عند أولئك الذين شاهدوه.
أما كاتب الرسالة إلى العبرانين يقول أنه بولس.
وقد كتبت هذه الأسفار في فترة تنوف قليلاً عن نصف قرن يمتد على الأرجح من سنة 45م كأبكر تاريخ إلى سنة 100م تقريباً.
الترجمات القديمة للكتاب المقدس:
من المعروف أن اللغة التي كتبت بها أسفار العهد الجديد هي اللغة اليونانية، المعروفة بالغة الإسكندرانية. والتي كانت منتشرة في الشرق منذ انتصارات الإسكندر، وهي ذات اللغة التي استعملت في الترجمة السبعينية لأسفار العهد القديم، إلا أن بعض فصوله كانت مكتوبة بالآرامية التي كان يتكلمها السيد المسيح له المجد. وقد عرف الكتاب المقدس ترجمات كثيرة من بينها:
1
-الترجمة السبعينية:
من الترجمات القديمة التي نعرفها عن الكتاب المقدس (أسفار العهد القديم) الترجمة المعروفة بـ “السبعينية”. وقد تمت هذه، في الإسكندرية في القرن الثالث قبل الميلاد. وقد استخدمت لمنفعة أهل العهد القديم القاطنين خارج أرض فلسطين، حول حوض البحر الأبيض المتوسط والذين كانوا يتكلمون اليونانية، كما أن هذه الترجمة كانت معروفة في العصر الرسولي. ويؤكد بعض اللاهوتيين بأن الرسل والبشيرين قد استعملوها.
2
-الترجمة الباشيطا
أن أقدم الكنائس التي تشكلت في الشرق العربي، هي الكنيسة السريانية، وقد وجد أبناء الكنيسة هذه، ضرورة ترجمة الكتاب المقدس إلى لغتهم الخاصة. ومما عثر عليه ترجمات عديدة بهذه اللغة، ومن أشهرها ترجمة تدعى “الباشيطا” وتعني هذه الكلمة “بسيطة”، ويؤكد علماء الكتاب المقدس على أنها ترجمت في أواخر القرن الأول أو في بداية القرن الثاني للميلاد.
3-نسخة فيلكس السريانية
ترجمت هذه النسخة سنة 508 للميلاد. وقد وجدت ترجمات أخرى بالسريانية بقى منها نسختان أصليتان وهما نسخة الكارتونية والسينائية.
4-الترجمة إلى سريانية فلسطين (الآرامية)
اكتشفت حديثاً قطع من ترجمة العهد الجديد من اليونانية إلى سريانية فلسطين التي كانت في عهد المسيح له المجد، كتبت هذه الترجمة في القرن الرابع للميلاد.
5
-نسخة كليماكوس
تشتمل هذه النسخة على أجزاء من البشائر الأربعة (الإنجيل) وسفر أعمال الرسل ورسائل بولس الرسول، تمت هذه حوالي سنة 600 للميلاد.
6-
الترجمة القبطية:
تشير الوثائق التاريخية، إلى أن أهل مصر كانوا يقرأون الكتاب المقدس باللغة القبطية قبل النصف الأول من القرن الثالث بعد الميلاد. واللغة القبطية هي مركبة من اللغة المصرية القديمة واللغة اليونانية ويعتقد أن العهد القديم ترجم إليها من الترجمة السبعينية في القرن الثاني والثالث بعد الميلاد.
هذا قليل القليل مما نعرفه عن الترجمات القديمة لهذا الكتاب الفريد. ومما لاشك فيه، أنه توجد ترجمات عديدة للكتاب المقدس لم يحدد بعد تاريخ ترجمتها. والدراسات لا تزال قائمة حول هذا الموضوع. إن الاكتشافات الحديثة وعلماء الآثار في كل مرة يطالعوننا بشيء جديد فيما يخص هذا الكتاب الذي يعد من أقدم وأعرق الكتب التي عرفها العالم. ومع كل هذه الترجمات ظل الكتاب المقدس محافظاً على قوته الروحية ووضوح رسالته الموجهة لبني البشر عامة ودقة معانيه. ولم يكن صعباً على الرجل العادي استيعابه ولا على المتعلم أن يقلل من قيمته، بل هو لكل إنسان ولجميع المستويات البشرية.
المخطوطات الشهيرة للكتاب المقدس:
1-
النسخة الفاتيكانية: (كودكس فاتيكانس):
سميت بهذا الاسم لأنها كانت ملك مكتبة الفاتيكان بروما وعندما اجتاحت جيوش نابليون إيطاليا، نقلت النسخة إلى باريس. وقام بدراستها أحد العلماء، من عام 1809 حتى سنة 1815. وتتألف هذه النسخة من 820 صحيفة، ويرجّح الخبراء بأنها كتبت في تاريخ يتعدى منتصف القرن الرابع للميلاد.
2-
النسخة السينائية:
اكتشفت هذه النسخة في دير سان كاترين المقام على سفح جبل سيناء على يد عالم ألماني يدعى”قسطنطين تشندرف” حين قام بزيارة الدير سنة 1842 بحثاً عن هذه النسخة الأثرية. فوجد 45 رقاً تحوي بعض أجزاء من الأسفار المقدسة. وفي عام 1853 وعام 1859 عاد ليبحث عن الأجزاء الناقصة منها. فقدم له أحد الرهبان لفة ضخمة وجدها تحتوي على العهد الجديد بأكمله، وأجزاء من العهد القديم. فاشترى الكل بمبلغ 6750 دولار ونقلها إلى بتروغراد. ولما قامت الثورة الشيوعية، عرضت النسخة للبيع. فاشتراها المتحف البريطاني بمبلغ نصف مليون دولار.
والنسخة السينائية الأصلية يرجح أن عدد صفحاتها كان 730 صفحة أحرق الرهبان بسبب جهلهم منها 340 صفحة ولم يبق الآن سوى 390 صفحة. ويقول العلماء بأنها كتبت في القرن الرابع أو في بداية القرن الخامس للميلاد.
3-
النسخة الاسكندرانية:
كانت تحوي هذه النسخة على 820 صفحة بقى منها 773 صفحة، وقد كتبت فيما بين نصف القرن الخامس ونهايته. وهي موجودة في متحف لندن.
4
-نسخة أفرايم:
كتبت في القرن الخامس وقد صنفها أفرايم السرياني الذي عاش في القرن الرابع للميلاد، وكانت هذه النسخة ملك عائلة مديتشي في فلورنسا، ونقلتها كاثرين دي مديتشي إلى باريس في القرن السادس عشر وهي اليوم في المتحف الفرنسي بباريس.
5-
النسخة القطونية:
كتبت هذه النسخة في القرن الخامس أو السادس.
6-
النسخة الأمبروسانية:
كتبت في نصف القرن الخامس.
7-
النسخة البيرائية:
كانت محفوظة في جامعة كامبردج من أعمال إنكلترا. وقد كتبت في بداية القرن السادس.
وتوجد نسخ صغيرة عدا هذه النسخ الكبيرة تشتمل على أجزاء متفرقة من أسفار العهد الجديد بالأصل اليوناني ومن أقدمها عهداً نسخة محفوظة على شفة واحدة من البردى اكتشفت حديثا في أصلال البهنا وهي تشمل الإصحاح الأول والإصحاح العشرين من إنجيل يوحنا. وكتبت هذه ما بين 200 و300 م في مصر.
الترجمات العربية للكتاب المقدس:
عرفت الجزيرة العربية قبل الإسلام، بجانب الوثنية، الديانات السماوية كاليهودية والمسيحية. فقد هاجر عدد كبير من اليهود إلى الجزيرة العربية بعد خراب أورشليم سنة 70 ميلادية على يد القائد الروماني تيطس. فاستوطنوا في عدة جهات منها. كما كانت بيثرب (المدينة المنورة) جالية كبيرة منهم. فعمل هؤلاء على نشر تعاليم التوراة بين القبائل العربية، وانتشرت أفكار دينية وقصص مستوحاة من التوراة في المجتمع العربي، منها ما كان خرافي ومخالف للتوراة. كما أدخلت إلى اللغة العربية مصطلحات دينية جديدة لم تعرفها من قبل.
جاء في تاريخ آداب اللغة العربية لجرجي زيدان في المجلد الثاني مفاده، أن التوراة ترجمت إلى اللغة العربية كلها أو بعضها قبل الإسلام وكانت شائعة بين أدباء العرب، إلا أنها ضاعت في صدر الإسلام وهذا مما جعل البعض أن لا يصدقوا بوجود التوراة بالعربي قبل الإسلام.
وبجانب الديانة اليهودية في الجزيرة العربية، كانت بعض القبائل المسيحية العربية متواجدة هناك، وسفر أعمال الرسل يخبرنا بنشوء كنائس مسيحية نشيطة، كانت في الشام، وفي أنطاكية وفي مدن أخرى من القطر السوري، كما لا ننسى أن بولس الرسول بعد اهتدائه إلى الدين المسيحي ذهب إلى العربية، وقضى هناك ثلاث سنوات، سهل عليه في أثنائها أن يبشر بالإنجيل، سيما وهو الرسول المتأجج بنار غيرة التبشير بإنجيل المسيح.
ومن القبائل العربية المسيحية المشهورة، بنو غسان الذين قطنوا الشام، والمناذرة، وقبائل تغلب، وبكر وتميم، وفريق من بني طي في العراق. وانتشرت المسيحية في الجزيرة العربية بواسطة وعظ النساك والرهبان الذين تواجدوا في قلب الصحراء واهتدى أهل نجران بأجمعهم.
تشير بعض المصادر الإسلامية مثل صحيح البخاري ومسلم وأبي الفرج الأصفهاني أن القس ورقة ابن نوفل كان ينقل الإنجيل من العبرانية إلى العربية. والمتصفح القرآن يشْتَمُّ منه رائحة وجود الكتاب المقدس بالعربي (الانعام 155 و 165 السورة 6). وفي زمن المأمون عصر الترجمة، ترجمت التوراة إلى العربية على يد أحمد بن عبد الله بن سلام ما بين القرنين الثامن والتاسع.
وفي سنة 750 م قام يوحنا أسقف إشبيلية في أسبانيا بترجمة الكتاب المقدس من اللاتينية إلى العربية لمساعدة المسيحيين المغاربة في الأندلس.
وجاء في بعض المصادر أن علماء اليهود في الإسكندرية ترجموا أسفار التوراة وقطع وفصول منقولة عن التوراة السريانية إلى العربية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر.
وترجم سفر المزامير إلى العربية عبد الله بن الفضل في القرن الثاني عشر للميلاد كما ذكر أن سعيد الفيومي – وهو يهودي من الطائفة الربانية – ترجم كتب موسى الخمسة، وسفر أشعياء وأيوب عن الأصل العبراني للتوراة إلى العربية.
في عام 1874 قرر مجلس المرسلين الأمريكان في بيروت، لبنان بالقيام بترجمة جديدة كاملة للكتاب المقدس، بلغة عربية مبسطة بقصد تعميمه وانتشاره في الأقطار العربية، فباشر العمل القس عالي سميث عام 1848 بترجمة الكتاب المقدس من لغاته الأصلية وسار فيه مرحلة طويلة، يساعده في هذا العمل الجليل أساتذة أعلام وفي طليعتهم بطرس البستاني – مؤلف قاموس محيط المحيط – والشاعر العربي الشهير، ناصيف اليازجي. وفي سنة 1854 انتهت أسفار موسى الخمسة، وبعض مقطوعات من العهد الجديد، غير أن سميث توفي بداء السرطان وهو لم ينته بعد من ترجمة الكتاب المقدس كاملاً، فتسلم العمل الدكتور كرنيليوس فانديك، فنقّح ما أنجزه القس عالي سميث وأكمل الأجزاء المتبقية من الكتاب المقدس يعاونه على ذلك الشيخ يوسف الأسير الأديب الأزهري اللامع. وصدرت الطبعة الأولى لترجمة الكتاب المقدس بكامله في 29 آذار (مارس) عام 1865 ومنذ ظهورها وهي تستخدم في الكنائس الإنجيلية العربية.
وبعد مضي سبع سنوات على ظهور الترجمة الإنجيلية (البروتستانتية) قام المرسلون اليسوعيون الكاثوليك بعمل مماثل لترجمة الكتاب المقدس عن الأصلين العبراني واليوناني، وكان رئيس اللجنة الأب أوغسطين روديه مشرفاً على العمل واستأنف العمل سنة 1872. وقد اعتمد على الشيخ إبراهيم اليازجي في الترجمة العربية هذه، يعاونه الأب جمجع، وصدرت الترجمة في ثلاثة مجلدات: الأول سفر التكوين إلى سفر أستير من العهد القديم صدر عام 1876، والمجلد الثاني من سفر أيوب حتى نهاية العهد القديم صدر عام 1880، والمجلد الثالث في العهد الجديد بكامله صدر عام 1878.
وبهذا العمل العظيم أشرق على العالم كوكب جديد بظهور الكتاب المقدس بلغة الضاد، منيراً الكثيرين، وهادياً إلى السبيل المستقيم.
لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد . آمين